نشاط حول الحداثات التونسيّة
07 جويلية 2021

يظلّ تحديد المفهوم الإشكاليّة الإيبستيميّة الكبرى لأنّ تباين المقاربات مرتبط بطبيعة المفاهيم التي تنطلق منها كل أطروحة، لذلك تكون دقّة المفاهيم الشرط الممهّد للبحوث الأكاديميّة والسجالات الفكريّة ضمانا للحد الأقصى من الموضوعيّة، وتتنزّل عبارات الحداثة والتحديث والحداثي ضمن هذه القضايا الإشكاليّة نظرا إلى طبيعة الأسئلة التي تثيرها باطّراد حول مدى مشروعيّة التسليم بوجود ثوابت كونيّة للحداثة، فهل نحن أمام حداثة ذات مقوّمات ناظمة وتوحيديّة أم إزاء حداثات؟ وإن سلّمنا بالتراكم المعرفي فأيّ معنى للإقرار بحقبة النشأة الفعليّة للحداثة؟ وأيّة مشروعيّة لسياق معرفي ينصّب نفسه الأب الشرعي للحداثة؟ هل يمكن للإيديولوجيات المغلقة استيعاب مقتضيات التحديث؟ ألا يرتهن الخطاب التحديثي بالدمقرطة؟ ما المقصود بالحداثات التونسيّة؟ وما طبيعة مساراتها؟أثيرت هذه الإشكالات في مؤتمر علميّ نظّمه مؤخّرا قسم العلوم الإنسانيّة والاجتماعيّة بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون “بيت الحكمة” بالتعاون مع الرابطة الدوليّة لعلماء الاجتماع الناطقين باللغة الفرنسيّة حول الحداثات التونسيّة ذات الخصوصيات التي تستوجب مقاربات متنوّعة الهويات المعرفيّة من أجل فهم سياقيها الخصوصي والكوني وفقا لرئيسة القسم الأستاذة منيرة شابوتو الرمادي التي أشرفت على فعاليات هذا النشاط العلمي، فللحداثات مساراتها التي تتداخل فيها استراتيجيات فكريّة وتشريعاتيّة ورؤى إصلاحيّة دعت إليها العقول المستنيرة مثل شارل بودلير على حدّ عبارتها. بالنسبة إلى المسارات التشريعيّة قدّمت الأستاذة كلثوم مزيو مداخلة بعنوان « Féminisme d’Etat et vécu des Femmes » أثارت فيها إشكالات حقوقيّة ذات علاقة بالمساواة بين الجنسين والأسرة، مميّزة بين تشريعات مرتهنة بأطروحات محافظة قوامها التعسّف، ومقاربات تحديثيّة مؤمنة بالمواطنة التامة التي تتساوى في رحابها جميع الكيانات البشريّة، وهو ما دعت إليه فلسفات التحديث المسلّمة بكونيّة قيم تتمثّل أساسا في الحريّة والديمقراطيّة والمساواة والعدل، وكل مقوّمات الكيان الحر كما ورد في مداخلة رئيس المجمع الأستاذ محمود بن رمضان « La marche vers la modernité depuis l’indépendance : la hardiesse d’une œuvre » فمسار التحديث بالنسبة إليه هو مسار تحرّر الفرد بالضرورة، مميّزا بين “المجتمع التقليدي” الذي يحكمه منطق “التفكير الجمعي” والمجتمع الحداثي المتّسم “بالفكر الفردي الحر” إذ لا يمكن أن تنخرط مجتمعات الوصاية الفكريّة في أيّ مسار تحرّري حداثي نظرا إلى التباينات الكبرى بين فئات تستمدّ نفوذها من تسلّطها ونخب مستنيرة مؤمنة بمفاهيم الذات بوصفها الجوهر المفكّر والإنيّة الحرّة والكينونة المتمسّكة ببنية حقوقها غير القابلة للتجزئة والتقسيط. وفي هذا الصّدد تجلّت مواطن التجانس بين المقاربتين حيث تناول المحاضران مخاطر الوعي البطرياركي باعتباره نزعة تسلّطيّة داحضة لقيم المساواة بين الجنسين ومهدّدة لشروط البناء الأسري السوي لأنّ المنطق التفاضلي المبيح لخيارات “زواج العرف” و”عدم التكافؤ بين الجنسين” والمحاكمات الأخلاقويّة لمسائل حسمها التشريع المدني والمواثيق العالميّة الخ . . ينهل من مرجعيّات فكريّة استبداديّة منافية للذات التي آمنت بها فلسفة التحديث وناصرتها التشريعات الإصلاحيّة ونخب الفكر التقدّمي، فمسيرة التحديث التونسي منذ الاستقلال في نظر الأكاديمي محمود بن رمضان رحلة نضاليّة قادتها النخب الفكريّة المستنيرة على غرار بعض الصادقيين (المعهد الصادقي) وعديد الرموز من الناشطين الحقوقيين والنقابيين مثل فرحات حشاد. إنّها باختزال شديد مسيرة معركة بين قطب إصلاحي تقدّمي وقطب محافظ تقليدي شعاره “غلق باب الاجتهاد” وفقا لمداخلة الأستاذ عبد الحميد هنيّة « Penser « la modernité » et sa genèse en Tunisie aux XVIIe-XIXe siècles » المؤكّد على خصوصيّة مظاهر مسارات الحداثة التونسيّة على الرغم من سماتها الكونيّة، مذكّرا عبر معجم المؤرّخ بمظاهرها السياسيّة والسوسيو-ثقافيّة والعلميّة والتربويّة حيث شملت في تلك السياقات التاريخيّة جل مكوّنات النسيج الحضاري التونسي، وهو ما تؤكّده حسب مقاربته “شهادات المؤرّخين التونسيين وغير التونسيين”. لنستشف ممّا تقدّم أنّ التحديث إن شخّصناه بأدوات عالم الاقتصاد أو المؤرّخ أو الحقوقي يظلّ مرتهنا بثنائيّة الوعي العلمي والفكر التحرّري باعتبارهما في تلازم أنطولوجي لأنّ ضحايا التفكير الميثولوجي غير مؤهلين سيكولوجيا وذهنيا لاستكناه النمط المعيشي الحداثي المتصل بجميع مظاهر التجربة الوجوديّة، لذلك أكّدت كل مداخلات المؤتمر على أنّ التحديث ليس مجرّد خيار من الخيارات، بل هو مواكبة لمسارات فكريّة كونيّة أسهم فيها سياقنا المعرفي، وذكّر في هذا الإطار الأستاذ محمود بن رمضان بثراء وانفتاح تونس ذات الانتماء الإفريقي والمتوسّطي وعمقها الحضاري منذ القرطاجنيين. ومن البديهي جدّا أن يمثّل الفكر التحرّري حاضنة خصبة لإغناء الروح العلميّة ممّا يفسّر الدور الريادي الذي اضطلع به قادة الرأي وضغوط قوى المجتمع المدني من أجل خلق رأي عام مدرك لمخاطر الكف عن الاجتهاد وفقا للأستاذ عبد الحميد هنيّة، ولأنّها معركة مفتوحة بين نمطين مجتمعيين مختلفين أجمعت المداخلات على أنّ مسار الحداثات التونسيّة يظلّ مفتوحا، فللنزعة المحافظة أنصارها وقواها الضاغطة ميكروفيزيائيا وماكروفيزيائا، وللوعي التحديثي روّاده ورهاناته. تلك هي الفوارق بين سيكولوجيات قلقة تستعيد المسائل للحساب الخاص قصد تعقّلها، وأخرى مطمئنّة كل الطمأنينة لمن نصّب نفسه مثلها الأعلى ذاك الذي يجود بالحقيقة كلّما احتاجت، عموما لا يمكن أن نكون حداثيين في السياق الشعاراتي عبر التسويق لمقولات الحريات والعدل والانصاف والإرادة العامة والتقدّميّة الخ… وأحاديين ودغمائيين وتقليديين في مستوى البراكسيس إلاّ إن كنّا ضحايا السكيزوفرينيا.

الملخّص

المواكبة الإعلاميّة

jomhouria.com 06-07-2021

iconeculture.net 06-07-2021

ليدرز 28-06-2021

Pin It on Pinterest

Agence de création site web en Tunisie

2019 © Beit al Hikma