محاضرة:
تأثير ابن الجزّار العلميّ
في أوروبّا في القرون الوسطى
للأستاذ ابراهيم بن مراد
15 مارس 2022

لا تهتمّ الأقسام العلميّة بالمجمع التونسي للعلوم والآداب والفنون” بيت الحكمة” بجديد المنجزات العلميّة والفكريّة والإبداعيّة فحسب، بل تنظّم سلسلة لقاءات وندوات ومحاضرات تتناول الرموز العلميّة والفكريّة المختلفة التي أثّرت تاريخيا في المسارات المعرفيّة. وفي هذا الإطار نظّم قسم الآداب بالمجمع أمسية أدبيّة قدّم خلالها الأستاذ إبراهيم بن مراد محاضرة حول تأثير ابن جزّار العلمي في أوروبا خلال القرون الوسطى، وافتتحت الأمسية الأستاذة رجاء ياسين بحري رئيسة القسم مقدّمة فكرة عامّة حول مسيرة المحاضر وأهمّ أعماله.واهتمّ الأستاذ إبراهيم بن مراد بأبرز الإسهامات العلميّة التي أغنى بواسطتها ابن الجزّار الحضارة الأوروبيّة خصوصا، والعالميّة عموما، وخاصّة تلك التي تتمثّل في أعماله الطبيّة التي تؤكّدها حجم الترجمات وبعض الدراسات التي تعتبره مؤسّس مدرسة طبيّة.

الملخّص:

دورُ العربيّة في التّثاقُفِ والتّداخُلِ بيْن اللّغَات

للموضوع صلةٌ وثيقةٌ بظاهرتي التأثُّرِ والتأثيرِ بينَ اللُّغَات. وقد عرَفت اللغةُ العربيّةُ باعتبارها أداةَ تعبيرِ الجماعةِ اللغويّة التي تتكلَّمُها عبرَ العُصور عنْ أفكارِها وعن المفَاهِيم التي تُبِينُ عن تلك الأَفكَارِ بأرْبَعِ مراحل أساسيّة : الأولى هي مرْحلةُ التأثُّرِ الأولى، ومدّتُها قرنان من الزّمن هما القرنُ الثّامنُ والقرْنُ التاسعُ الميلادِيّان، وقد قامَت على التّرجَمةِ وخاصة من اللغتيْن الفارسيّة واليونانيّة بنقْل النّصوص الأدبيّة والسياسيّة من الفارسيّة والنّصوص العلميّة من اللغة اليونانيّة، فخرجت بذلك من مرحلة التّعبير عن الملَكَة الشعريّة البَدويّة التي ظهرتْ منذ العصر الجاهلي إلى مرْحلة اللغَة العلميّة الحضاريّة المعبّرة عن المستحدَثِ من المفاهيم والأشيَاء، وقد كانت الدوْلة هي الراعيَةَ والدّاعمةَ لهذه الحركَة بمشاركة بعض العائِلات الثّريَّة الكُبْرَى مثل البرامكة وبَني شاكر.
والمرحلةُ الثانيةُ هي مرحلة التّأثير، وهي مرحلةٌ طويلةٌ تمتدُّ على ستّةِ قرون ، من القرْن العَاشر إلى القرنِ الخامس عشر الميلاديّين، وهي مرحلةُ الابْتكار العلميّ والمفَاهِيميّ إذ استوعبَ العلماءُ العربُ التراثَ اليونانيّ الذي انتقلَ إليْهم ثم تناوَلُوه بالنّقْد، وكانت لهم إضافاتُهم العلميّة إليْه، وأصبحت العربيّةُ في هذه المرحلة لغةَ العالَم الحيَّةَ الأولى، وأصبحتْ بغداد في المشْرق والقيْروانُ وقرطبةُ في المغْرب عواصمَ علميّة وفِكريّة تُقْصَدُ من البلادِ الأوروبيّة للتعلّم. وقد ظهرَ لأوروبّا في هذه المرْحلة وجْهَان : وجهٌ دينيٌّ مُتعصِّبٌ قد عبّرتْ عنه الحرُوبُ الصليبيّة التي قادَتْها الكَنيسةُ ضدّ الإسْلام والمسلمين وضدَّ الأفكارِ التي تحملُها المؤلّفاتُ العربيّةُ، ووجْهٌ دُنْيَوِيٌّ مَدَنيٌّ يُظْهِرُها مُتَعَطّشةً للعلم والمعْرفة، وقد وَجَدَتْ في المؤلّفات العربيّةِ العلميّةِ والفلسفيّةِ ضَالَّتَها فقامتْ بترجمتها إلى اللغَات اليُونانيّة واللاتينيّة والعبريّة وبعض اللهَجَات المحليّة. لكنّ حركةَ التّرجمة لم تَكنْ في الغالب مشروعًا من مَشاريع الدُّوَل بل كانتْ أعمالًا يقوم بها الأفْرَادُ، وقد يكونُ عدمُ تدَخُّلِ الدّوَل الأوروبيّة لتشجيع الحركة والإشْراف عليها راجِعًا إلى ما كان للكنِيسَة من سُلْطانٍ على ملوكِها. وقد تأسّسَتْ على هذه التّرْجماتِ نَظريّاتٌ ومذاهبُ ومناهجُ في البحْث في العُلومِ وفي الفَلسَفَةِ اعتُمِدَتْ في الجامِعاتِ الأورُوبيّة، ومنها ما كان سِلاحًا اسْتعمله الأساتِذَةُ الجامعيُّون الأوروبيّونَ في الرّدّ على الكنيسةِ ومُقاومةِ أفكارِها الدّينيّةِ المتَعَصِّبَة ضِدَّ التّحْدِيثِ الفكريّ والعلميّ.
والمرحلةُ الثالثةُ كانتْ مَرحلةَ رُكودٍ، وقد دامتْ ثلاثةَ قرُونٍ من الزمن، من القرنِ السادسَ عشر إلى القرن الثامن عشر الميلاديّيْن، وللركود سببَان : الأوّل هو غلبةُ العصبيّةِ التّركيّة سياسيّا وخُضُوعُ العالم العربيّ للخلافَة العثْمانيّةِ ومُزاحمةُ اللغةِ التركيّة للغةِ العربيّة ، وقد بدأت هذه المزاحمةُ في الحقيقة وقويتْ بالتدريج منذ القرن الرابع عشرَ الميلاديّ عندما بدأ علماءُ اللغة العربُ يهتمّون باللغَةِ التركيّة ويؤَلّفون في صرْفها ونحوِها الكتبَ؛ والسببُ الثّاني هو توقُّفُ حركة الاجْتهادِ في العلمِ وميلُ العلماءِ العربِ إلى تكرارِ ما قيلَ في المرْحلة الثّانية، والاكتفاءُ في الغالب يوضْع المختصَراتِ والشّروحِ لأهَمِّ مَصادرِ العِلم فيها. أمّا في أوروبّا فقد كانت هذه المرحلةُ مرحلةَ النّهضة والابْتكارِ بعد أن انتهتْ مرحلةُ التّأثّر فيها، فظهرَ فيها كبارُ الفلاسِفَة والعلماءِ والأدباء.
والمرحلةُ الرّابعةُ هي مرحلة التّأثّر الثانِيةُ، وقد بدأتْ في أولِ القرنِ التاسع عشر وما زالتْ متواصلةً إلى اليوم، وهي تعتمِدُ منذُ بدايتها على التّرجمَة من لُغاتِ العِلم الحديثَة، وقد تكوّنت الجامعاتُ الوطنيّة والمجامعُ اللغويّةُ والعلميّةُ ومُؤسّساتُ البَحثِ العلميّ ومراكزُه ومنْ أهمّ أهدافِها جميعًا أن تُرْجِعَ إلى اللغةِ العربيّة إشعاعَها وأنْ تجعلَ منها لغةَ علمٍ وابتكارٍ منْ جديد، لكنّها لم تنجحْ إلى اليوم في تحقيقِ هذا الهدفِ لأنّ العربيّة ما زالت منذ بدايةِ القرن السّابع عشرَ لغةَ أدبٍ، أمّا في العُلوم بشقَّيْها الصحيحةِ والإنْسانيّة فما زالتْ تَعْتَمدُ الترجمةَ من اللّغاتِ الأجْنبية.
وقد كان “التداخلُ اللغويّ” منْ أهَمّ نتائج ظاهرتيْ التّأثّر والتّأثير بين العربيّة واللغاتِ الأخرى ، وأهمّ ما يعبّرُ عن هذا التّداخلِ هو الاقتراضُ اللغَويّ. والاقتراضُ قد يكونُ في أنْظمةِ اللغة الخصوصيّة وهي الأصواتُ والتراكيبُ النحويّةُ والأبنيةُ الصرفيّةُ، وقد يكون في مُفرداتِ المعْجَم، لكنّه في المعجم أقوى. وقد دخلَ العربيةَ كثيرٌ من المقترضاتِ المعجميّة في مرحلتي التّأثرِ الأولى والثّانية، كما دخلتْ منها مقترضاتٌ مُعجميّةٌ كثيرةٌ في اللغاتِ الأوروبيّة أثناءَ مرحلة تأثيرها، وذلك إمّا مباشرةً كما نِجدُ في اللغة الإسبانية، وإمّا عن طَريقِ اللغةِ اللاتينيّة التي نُقِلَتْ إليْهَا النّصوصُ العَربيّة.

المواكبة الإعلاميّة

Kapitalis 15-03-2022

Pin It on Pinterest

Agence de création site web en Tunisie

2019 © Beit al Hikma